وُلِدَت وهي على وشَكِ النِّهاية ،
لكِنَّها لم تنتَهِ ..
كانَت مُتَشَبِّثةً بالحياةِ رُغمَ
صُعوبَةِ وَضعِها وخُطورَتِه علَيها ..
مُتَشَبِّثةٌ بالحياةِ رُغماً عن تلكَ
النِّهايةِ التي كانَت تحومُ حَولَها كُلَّ حين ..
رُغماً عن مُحاوَلَةِ القدرِ بِسَحبِ
أوكسيجينِ هذا الكوكَبِ عنها ،
والتَّلَذُّذِ بِمُشاهَدةِ اختِناقِها
وازرِقاقِ جسدِها الصَّغير ..
رُغماً عن تَسَبُّبِهِ بِضَعفٍ كبيرٍ بِعَضلاتِ أطرافِها أَوصَلَها
حدَّ
اتِّفاق الأطِبَّاء بأنَّها لن تَمشِيَ
يوماً ..
وَرُغماً عن قرارِ أُمٍّ لاذَت
بِالفِرارِ من قَدَرِ طِفلَتِها المحتوم ، وتَركِها
وَحيدَةً تُعارِكُ قَسوَةَ الحياة منذُ
أيَّامِها الأولى ..
لم يكُن هناكَ سِوى أبٍ مَصدومٍ مِما
حدث ..
طِفلَةٌ مريضَةٌ على حافَّةِ الحياةِ ،
تَستَنجِد !..
وأُمٌّ لا تَصلُحُ لِأن تكونَ أُمّاً ،
تُكمِلُ طريقَها تارِكَةً خلفَها حياةً
ترفُضُ الاستِسلام بِدونِ أن تَلتَفِتَ
إلى الخلفِ أو حتَّى تسأل ..
وطِفلَةٌ بِأيَّامِها الأولى وحيدة ..
ومُحاطَةٌ بِالمخاطِرِ من كلِّ جانِب ..
وجدَّةٌ طيِّبةٌ أَبَت إلاَّ أن تكونَ
المُنقِذَ واليدَ التي ستُساعِدُ في بقاءِ الطِّفلة ..
وتُمسِكُ بِيَدَيها الصَّغيرَتَينِ
لِتَعيش ..
حَمَلَت على كاهِلِها أمر الاعتِناءِ
بها وأخذِها كُلَّما باغَتَها الخطَرُ لإنقاذِها ..
لم يكُن الأمرُ سهلاً أبداً ..
ولكِنَّ اللهَ زَرَعَ عَزماً وقُوَّةً
لدى الجدَّةِ لِتَمُدَّ طِفلَتها بالأمانِ والحنانِ والرِّعاية ..
وَبَعدَ العناءِ الذي قامَت بهِ الجدَّة
من أجلِ طِفلَتِها قُدِّرَ لها أخيراً أن يكون
لها أُمّاً بِكُلِّ ما تحمِلُهُ
الكَلِمةُ من معنى ..
بِكُلِّ ما يحمِلُهُ الكونُ من حياةٍ
وحُب ، كانت الحياةَ التي أكمَلَت مَسيرَةَ
الجدَّةِ مِن أجلِ أن تعيشَ وترسُمَ لها
ابتِسامَةً تبقى كالاسمِ طُوال حياتِها ..
وكأنَّ الله يبعَثُ بِأشخاصٍ هُمُ الأمل
لِتنمو زهرةً مِن وسَطِ شوكِ صبَّارَةٍ
قاسيَة وجافَّة ...
تِلكَ الزَّهرةُ هي " أنا "
التي خَرَجَت لِتُثبِتَ لِلعالمِ أجمَع بِأنَّ الضَّعفَ
ليسَ سِوى وهمٍ حقيرٍ سَيَتلاشى
بِمُجَرَّدِ أن يُقهَر ..
وتِلكَ الجدَّةُ هي جدَّتي التي لم
تَترُك القدرَ يَنالُ مِن وِحدَتي و مَرَضي ..
هي جدَّتي التي كانَت أوَّلَ من أمسكَ
بِيَدَيَّ الصَّغيرَتَين لِأعيشَ ويكونُ
لي وجودٌ على هذا الكوكب ..
وتِلكَ هِيَ أمي التي أوصَلَتني إلى ما
أنا عليهِ اليوم وقد ذاقَت المُرَّ بِذلك ..
فَبِفضلِ اللهِ وحُبِّها وصبرِها
وإصرارِها على أن أكونَ شيئاً ..
مَشَيتُ أولى خطَواتي وتعَلَّمتُ
وأصبَحتُ كاتِبة ...
وذاكَ هو أبي الذي لم يترُكني أتخلَّى
يوماً عن حُلُمٍ رَغِبتُ به ..
كانَ الدَّاعِم الأوَّل لِكُلِّ ما
تَمَنَّيتُه وحقَّقتُه ..
هوَ صاحِبُ الابتِسامةِ العميقَةِ التي
تُنبِتُ في قلبي زهراً ..
وتِلكَ الرَّاحِلةُ بِلا عَودةٍ !!...
ليسَت بِشيءٍ سِوى أنَّها هارِبةٌ من
قدرٍ كُتِبَ وقُضِي ...
لا أحد يستطيعُ الإنكارَ بِأنَّها سببُ
وجودي ولا حتى أنا ..
ولكن ماذا عن ما أنا عليهِ الآن ؟؟..
مَن أوصَلَني إلى هُنا ؟..
ومَن شَهِدَ ألمي وانكِساراتِ روحي ؟..
من سمِع شكواي الدَّائمة من بشَرٍ لم
يروا شيئاً فيَّ سِوى مَرَضي ؟..
ولَم يُعطوني سِوى نَظَراتِ شفقةٍ
واحتِقارٍ تَفتِكُ بقوَّتي وأملي وحتَّى روحي ..
مَن احتَضن ضعفي وسَمِع بُكائي ومسَحَ
دموعي ؟..
من زرَعَ فيَّ ثقةً وملأ قلبي أملاً ،
علَّمَني الحروف وترتيبَ الكلِمات ؟..
مَن ذاك الذي تَعِبَ وصبَرَ سبع سنينٍ
حتى استَطَعتُ الوقوف على قدَميَّ ؟..
مَن أعطاني حُبَّ الكونِ كُلِّه وأغناني
بِوجودِهِ عن الكونِ كلِّه ؟..
من فعلَ كُلَّ ذلك ؟..
مَن سِوى امرأةٍ تَحدَّت كلَّ الظروفِ
لِأكونَ أنا ابنَتَها وهي أمي ..
مِنَ المُؤَكَّدِ بِأنَّ أمّاً تَخلَّت
منذُ الأيامِ الأولى عن طفلَةٍ تتَهادى بينَ الموتِ والحياة ..
طِفلَة عاجِزةً يئِسَ من خلاصِها
الغالبيَّة ..
لن تفعَلَ كلَّ ذلكَ لِتَهِبها جزءً من
الحياة التي وُلِدَت بِدونِها ..
ولن يَكونَ يوماً لها يَدٌ بِما
أصبَحتُهُ وما سأكونُه يوماً ..
مَن لم يَتقبَّل وجودي بضَعفي وسوءِ
صِحَّتي منذُ البِداية ..
كيفَ سأتقَبَّلُهُ بعد أن تخَطَّيت كلَّ
ذلِكَ بِدونِ حتى توَقُّعِ وجوده يوماً ...
بعدَ أن تعلَّمتُ كيفَ أدوسُ على
الضَّعف وأُنكِرَ تَصرُّفات
من تجاهل وجودي ومشاعِري وأفكاري ...
وبعدَ أن تعلَّمتُ أن أكونَ أنا الآن
!..
#مياس_وليد_عرفه

تعليقات
إرسال تعليق