القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية "ثلاثية غرناطة" لِلروائية "رضوى عاشور"

 

كانت مئة عامٍ من المآسي والآلام، مئة عامٍ كامِلة من القهرِ والذل والهوان، من الخوفِ والتوتر الدائم الذي لم ينتهِ أبدًا بنهايةٍ سعيدة بل على العكسِ تمامًا، كانت النهاية أشدَّ ألمًا من أي شيءٍ آخر بأحداثٍ تُشابه مانعيشُه في واقِعِنا الحالي..

مئة عامٍ تلخَّصت بثلاثيةٍ تُعدُّ من الروائع التي قامت بِكتابتِها المبدعة "رضوى عاشور" رحِمها الله حيثُ أبدعَت بتصوير أحداث سقوط غرناطة من خلال عائلة واحدة  وهي عائلة أبي جعفر الورَّاق ذاكَ الرجلِ رحيم القلب الذي كان يعمل في تجليد الكتب وكتابة عناوينها مع نعيم وسعيد الولدَين اللَّذَينن اعتبرَهُما كحفيدَيه (حسن و سليمة)

أبو جعفر الوراق الذي لم يتحمَّل رؤية مئات المصاحف والكتب العربية تذوبُ بين ألسنة نيرانٍ أشعلها القشتاليين في الساحةِ بعد إصدار عدد من القرارات التي حاربَت وبشكلٍ صريحٍ الإسلام ولغته العربية وأجبرَت الأهالي على التنصُّر أو السجن والعقوبات الشديدة وربما الموت لمن يُعارِض فماتَ حسرةً واختِناقًا مِما حدث، فبقي من عائلته أم جعفر التي ابتلَعَت الألم بقلبٍ راضٍ حتى تُحافِظ على ثباتِ العائلة وبقائها لِيكبُر الأولاد ولِتزهِرَ قلوبهم بالحُبِّ والحياة مُشكِّلين عائلَتَينِ جديدَتين -سليمة وسعيد - وَ -حسن ومريمة -

سليمة التي ورِثَت عن جدِّها حبّ العلمِ والكتب والتي تطرَحُ الكاتِبة من خِلالِها عدد من التساؤلات عن الموت وعن المفاهيم الخاطئة التي قد يُخبرها الكبار لِلأطفال فتنمو الأفكار وتتشابكَ حتى تصيرَ عقدةً عصِيَّةً على الفهم مُنتَهِيةً  بالإنزواءِ والابتعاد عن الجميع حتى عن سعيد زوجِها والأقرب لِقلبِها غارِقةً في كتبِ الطبِّ والأعشابِ

قد تكون أفكارُنا وتساؤلاتِنا سببًا رئيسيا ومُهِمًّا لِتعاستِنا كما حدث مع سليمة

تعاطفتُ كثيرًا مع سليمة وبكيتُ يومَ كانت عقوبتُها كعقوبةِ كتب جدِّها تارِكة خلفَها طفلتَها الوحيدة عائشة، ولكنَّ مريمة كانت الأقرب لِقلبي بِشخصيتِها المحبوبة وقصصِها المُضحِكة وفِطنتها، حزِنتُ يومَ حزِنت على بناتها، وثارَ قلبي خافِقًا يوم أخفت كتبَ سليمة بِصندوقِ غرفتِها وكأنها تُخفي جريمةً كبرى لا تهاوُنَ فيها وفي الحقيقة كانت جريمة كبرى وفظيعة..

تساءلتُ بينما كنتُ أُقلِّبُ الصفحات كيف تحمَّل أهلُ غرناطة ما لاقوه من الرومِ من قراراتٍ صارِمة بِحقِّ دينهم ولغتِهم، بحقِّ لبسِهم وأكلهم وشُربِهم، بِحقِّ عملِهم وحياتهم كلها باختِصار؟

تخيَّلتُ ملامِحَ أمهاتٍ يُلَقِّنَّ أطفالهنَّ تعاليم دينهم سِرَّاً والقلقُ الدَّائم بل الرُّعبُ يرافِقهنَّ ليلًا نهارًا من أن يتفوَّه أي طفلٍ بسِرِّهِ فيُحرمنَ منه ويُعتقَلنَ بتُهمةِ الكفرِ بدِيانةٍ أخرى أُجبِروا عليها، تصوَّرتُ الحزنَ الذي يشعرونَ به لحظة تغييرِ أسمائهم فيَكونَ لِلفردِ الواحِدِ اسمَينِ اثنين ودِينَينِ اثنَين وشخصيَّتَين اثنتَين إحدأهما مُعلَنة والأخرى مخبَّأة في الأعماق، تساءلتُ عن شعورِ أهلِ غرناطةَ وهم يفقِدون الثقةَ فيما بينهم مخافةَ أن يشي بعضُهم بِبعض لِلسلطات فيُعتقَل أو يموتُ بالتُّهمة الكُبرى!

حمدتُ الله ألفًا عِندما أُصدِرَ قرارٌ بأنَّ من يموتُ من العربِ يُدفَن على الطريقةِ النصرانيَّة، كيف يموتُ مُسلمٌ فيُدفَن بِلا غُسلٍ أو صلاة!

كان هذا القرار بمثابةِ الفاجِعة لِأبطالِ الرواية ولي كقارئةٍ على حدٍّ سواء

تعاطفتُ مع نعيم الذي فُجِعَ بموتِ زوجته الحاملِ بطفلٍ لم يعلم جِنسه فصار كمجنونٍ يهذي بأسماءٍ كان قد اختارها لِأطفالِه،أما علي وهو ابن عائشة وحفيد سليمة حيثُ قامت بتربيتِه مريمة بعد فقدانِه لأمه، علي ذاك الصبيُّ الذي كبُرَ تائهًا بين جميعِ الأحداثِ المؤلِمة والغامِضة والقراراتِ الصارِمة التي لا تنتهي، فقد كانت حِكايته النهاية المأساوية لِلرواية، عايشَ قرارَ الترحيل بدايةً عن غرناطةَ رفقَة مريمةَ التي فارقَت الحياة بفراقِها لِغرناطة ومنزِلِها ودُفِنَت في العراء، وعودتِه بعد ذلك لِغرناطة  لِيخسر منزِله ويُسجن فيخرج من سجنه ومن مدينته التي عشِقها وحيداً منفِيًّا في صحراءٍ مع حصانٍ لم يكن له ومغامرةٍ غريبةٍ مع بطلٍ غامِضٍ مُنتهِيًا بقريةِ الجعفرِية التي عاش فيها مابقي من عمره وعشِق كوثر تلكَ الصبية التي سرقت قلبَه منذ رآها للمرَّة الأولى وماتَت بطريقةٍ مأساوية!

في ذلكَ الوقت كانت الأندلُس على أعتابِ السُّقوط والنهاية حيثُ كانت حواراتُ شخصيات الرواية تتمحوَر حول "أين هم العرب؟"

لطالما انتظرَهُم أهلُ غرناطة ولكنهم كانوا في سُباتِهم غارِقين كما هم اليوم تماماً، وكأنَّ سُباتهم لا نهايةَ له!

سقَطَت غرناطة أو الأندلُس!

رُحِّلَ عربُها بعد أن ذاقوا اللوعةَ والصَّبرَ سنينًا دون فائدةٍ تُذكَر.

حضارةٌ عربيةٌ عريقة كالأندلُس تستحِقُّ أن يُكتَبَ عنها وتُقرَأ على مرِّ الزمان حتى تبقى ذكراها تُعاتِبُ عروبةً غافِلة إلى اليوم.


سطور أو صفحات لا تكفي لِوصفِ رواية عميقة كهذه، رِحلة طويلة ومُرهِقة إلى غرناطة والبيازينُ بِمنازلِها البيضاءُ الناصِعة ونهرِ حدِرَّة الجاري وقصور الحمراء تستحِق المُجازفة والقراءة

في النهاية أتساءل: ماذا لو بقي العربُ نائمون؟


الرواية رائعة جدًا بأسلوبِها وبتسلسُل أحداثِها، تشعرُ وكأنَّ أبطالها حقيقيين فتعيشُ معهم وتألَم لألمِهم وتبكي لِبكائهم وتخافُ عليهم ومعهم وتفرحُ لِفرَحِهم، سوف تشتاقُهم بعد الانتِهاءِ من الرواية وبالأخصِّ لِمريمة "ربما لأنها الشخصيةُ التي تعلَّقَ قلبي بها" لا أعلم من ستُحِبونَ أنتم أعزَّائي القراء.


#مياس_وليد_عرفه


*بعض الاقتباسات التي أعجبتني:


- ولكِنَّ الهمومَ التي تأكل قلوبَ الكِبار وتُسارِعُ خطواتِهم إلى القبرِ لاتقدِرُ على الصِّغار وهم يشِبُّون عن الطُّرقِ فتحمِلُهم سيقانُهم وتعلو.


- شيءٌ ما في عينَيها أو وجهها أو كلِّها يفتحُ لكَ بابًا فتدخُلَ من الظلامِ إلى النورِ أو تخرُجَ من عتمةِ سجنِكَ إلى الفضاءِ الرَّحِب وتتعجَّبُ لأنكََ لم تَعِ أبدًا وجودَ ذلك الباب الموصَدِ عليك، فما الذي حدث؟


- لكنًَّها يوم حملَت الكتاب بِأجزائه كاملةً ضمته إلى صدرِها الذي تسارَعَت نبضاتُ قلبها فيه، وكأنما يضيقُ بقفصِ الصدرِ وهو يرقصُ مُنفَلِتًا بِلا حياء.


- ولكنَّ التأمُّلَ لا يدومُ في حَومَةِ تعذيبٍ و رَوعٍ يُحيلُ الصور والأفكار إلى مزقٍ وشذرات، بينما البدنُ مجرَّحٌة والروحُ كالطائر الذبيحِ تنتفِض.


- في وحشَةِ سجنِك ترى أحبابكَ أكثر، لأنَّ في الوقتِ مُتَّسعًا ولأنهم يأتونَكَ حدباً عليكَ في مِحنَتِك، ويتركون لك أن تتمَلَّى وجوهَهم ما شئتَ وإن طال تأمُّلك.


- ما الخطأ في أن يتعلَّقَ الغريقُ بِلوحِ خشبٍ أو عودٍ أو قشَّةٍ؟

ما الجرمُ في أن يصنعَ لِنفسِه قِنديلًا مُزَجَّجًا ومُلوَّنًا لكي يتحمَّل عتمةَ أيامِه؟

ما الخطيئةُ في أن يتطَلَّعَ إلى يومٍ جديدٍ آمِلًا ومُستبشِرًا؟


- لا يأتي الكدَرُ مُنفَرِدًا، وكذلكَ الفرح يجيءُ وفي أعقابِه فرحٌ سِواه.


- هل الماضي يمضي حقًّا أم يُعرِّشُ على أيامِنا، أم أننا نعيشُ كالبيتِ فيه؟


- هل في الزمن النسيانُ حقًّا كما يقولون؟ ليس صحيحًا

الزمن يجلو الذاكرةَ كأنه الماء تغمُرُ الذهبَ فيه، يومًا أو ألف عامٍ فتجِدَه في قاعِ النهر يلتَمِع، لا يُفسِد الماء سِوى المعدن الرخيص يُصيبُ سطحه ساعةً فيعلوهُ الصَّدأ.


- لا يلفِظ البحر سوى الطحالب والحقير من القواقع.


- لِكلِّ أمرٍ تحت السماواتِ وقت، لِلولادة وقت ولِلموتِ وقت، لِلغرسِ وقت ولِخلعِ المغروسِ وقت.




تعليقات

التنقل السريع