لطالما كانت الحياة صعبةً بظروفها وأحوالها ولكنها حتمًا كانت الأصعب بالنسبة لِبطلة القصة بالمقارنة مع غيرها من الناس الأسوياء.
يُقال أنَّ لكلٍّ من اسمه نصيب ولكنَّ حدباء كان اسمها نصيبًا وقدرًا وواقِعًا ووصمة عارٍ بين أهلها، حيث كانت مصدر الشؤم بالنسبة لعائلتها المكونةِ من ستة أشخاص والدَيها وأخواتها الأربعة، أما هي كانت الخامسة وأكبرهن جميعًا.
يقولُ والدها وهو في حالةٍ من الغضبِ والقنوط مُتَّهِما إياها وبدون أي مراعاةٍ لمشاعرها المنكسرة أصلا: منذ اليوم الذي وُلِدتِ فيه والشؤم يلاحقني أيتها الحدباء البشعة، أي جرمٍ ارتكبته حتى عوقبتُ بمسخٍ مثلك، ارحمني وأبعدها عني يا رب!
ثم يعود ويهدد: لولا خوفي من الله لكنتُ ألقيتُ بكِ في الطرقات منذ اللحظة التي رأت فيها عينيكِ الدنيا!
بعدها يخرج مغلقًا الباب بقوة خلفه وطبعا لن ينسى إقفاله تارِكًا إيَّاها وحيدةً في الغرفة التي قرر هو وأمها مسبقًا أن تكون حبيستها خوفًا من أن يراها أحدٌ فيرفض مصادقتهم أو زيارتهم كي لا يلحقهم الشؤم، ولسببٍ آخر هو الأهم بالنسبة إليهما وهو ألَّا يرفض الناس طلب بناتهم الأربعة للزواج لأن لديهم أختٌ مسخٌ وقد تنتقل جيناتها المشؤومة لأطفالهم!
فتبقى هي وحيدة مُتألمةٌ لا تلوي على شيء سوى الخلاص ولا تعلم لذاك الغضبِ سببًا إلا أنها كانت السبب بكلِّ ما يحدث لو لم تكن لها علاقة أو حتى معرفة بالأمر، وجودها كان يكفي لتقع كل الكوارث في الدنيا وتكون هي المُتهم الوحيد الذي يجب أن تُقام بحقه أقسى العقوبات!
كيف لا وهي "حدباء" صاحبة الاسم البائس والمظهر المنكسر والبشع حسب رأي الجميع!
الجميع، هم والدَيها وأخواتها الثلاث عدا الصغرى "زهراء" التي كانت ترى العكس بكلِّ شيء يخص أختها، كانت تعي تمامًا بأن والديها ظلماها بداية من اسمها الذي أعطوها إياه نسبة لحدبةٍ في ظهرها خُلِقَت بها لا شأن لها بوجودها سوى أن الله أراد لها أن تُخلَق، ومن ثم حبسها بغرفة لوحدها وحجبها عن الأعين حتى عنهنَّ كي لا تتعاطفن معها وكأنها مسخٌ مخيف على الرغم من أنها كانت أجملهن بملامح وجهها الناعمة وعينيها الواسعتين شديدتي السواد وبشرتها البيضاء وشعرها الناعم الذي كلما طال قصته والدتها ولسببٍ تجهله! وأخيرًا بإذلالها وتفريغ الغضب عليها كلما حدثت مصيبة ما في المنزل.
كانت زهراء تدخُلُ خِلسةً كل ليلةٍ بدون علمِ أحدٍ في المنزلِ لغرفة أختها "حدباء" حتى تُشعرها بأن هناك من يهتم لأمرها في هذه الدنيا، في البداية كانت حدباء ترفض التحدث مع أختها فتبقى صامتة تتأمل من النافذة فقط، كانت أفكارها تعذبها ووحدتها تقتلها أما المعاملة السيئة التي كانت تتلقاها من عائلتها كانت حكاية أخرى لوحدها، لم تكن تستطيع الوثوق بأي أحد فالجميع يعاقبها ويهينها على شيء لا شأن لها به.
كانت تقول: أحقا أنا مذنبة لهذه الدرجة؟ ولكن ما ذنبي؟
رحلة البحث عن ذنبي طالت كثيرًا ولم أجد سببا واضحا، أم أنَّ الجميع مُخطئٌ ويخاف الاعتراف؟
لمَ الخوف إن كان سبب كل ذلك بيد الله وحده، الشيء الوحيد الذي علمتني إياه أمي كان كيف أصلي وأطلب من الله المغفرة!
كنت أفعل ذلك في صغري وأنا موقِنةٌ بأن هناك ذنبًا اقترفته ويجب أن يسامحني الله عليه لو قضيت عمري كله وأنا أصلي، لكن داخلي يقول دومًا أني لم أقترف أيَّ ذنب!
بعد وقتٍ طويلٍ من الصمت قررت زهراء محاولة قولِ شيءٍ من أجلِ أن تفتح المجال لجسور التواصل بينها وبين أختها لأن تمتد
فأخرجَتها من تأملاتها بسؤالٍ يملأه التردد: أنتِ لا تثقين بي؟
فأشاحت "حدباء" نظرها عن النافذة ببطءٍ شديد حتى استقرت عينَاها السوداوتان على عيني أختها البنيتين وأطالت النظر بتفكير عميق وكأنما كانت تُشاورُ نفسها هل تثق أم لا؟
أخيرًا نطقت: وهل يثقُ المسخُ بأحد؟
ردَّت زهراء بغضب: أنتِ لستِ مسخًا، أنتِ أختي الأكبر والأجمل، عقولهم الجاهلة وقلوبهم السوداء القاسية هي المسخ الوحيد هنا!
انبثقت من بين شفتي حدباء ابتسامة ساخرة: الأجمل؟
هل تحاولين لفت نظري لِلشعورِ بأنَّ هناك من يشفق عليَّ بعد أن عِشت أعوامًا عديدة من الإهانات والعقوبات والسجن والوحدة؟ لا تقلقي فأنا اعتدتُ كل ذلك، اذهبي واتركي عنكِ قناع الشفقة ذاك، أنا بخير وربما أموت قريبا فتتخلصوا مني وينقشع الشؤم عن حياتكن لتصبح جميلة وهادئة.
"أرجوكِ اسمعيني" قالت زهراء والدموع تملأ عينيها: أنا لا شأن لي بهم جميعًا، كلّ مرةٍ كنت أحاول الدخول إلى هنا كانت تشي بي إحدى أخواتي فأعاقب، وطبعا الباب كان مُقفلًا دائما ولا أحد منا يعلم مكان المفتاح.
قاطعتها باهتمام: كيف استطعتِ الدخول اليوم بدون أن يشي بكِ أحد؟ وكيف حصلتِ على المفتاح؟
ردَّت زهراء هذه المرة والبسمة تملأ وجهها وكأنها انتصرت بمعركةٍ ما: راقبتُ أمي بعد أن أحضرت لكِ عشاءكِ وأغلقت الباب وعرفت مخبأها السري، ثم انتظرتُ لأن تنام أخواتكِ وجئتكِ خِلسة.
-ماذا وإن اكتشف قدومكِ أحد؟
-لا تقلقي، كل شيء مُدبَّر له جيدا، فأخواتكِ ثقيلاتُ النوم لن يستيقظن إن لم يوقظهم أحد.
المهم دعينا نجلس ونتحدث قليلًا إلى الآن لا أستطيع التصديق أني برفقتكِ يا أختي!
كانت حدباء بحاجةٍ حقًّا لِونيسٍ يؤنِسُ وحدتها ويقتل الألم بداخلها، كانت بحاجةٍ لمن يشعر بها ويهتم لأمرها، لِيدٍ تمسكُ يدها بكل حب.
الحب!
كان شعورًا جديدًا لم تعرفه يومًا، الاطمئنان بوجود شخص بجانبها ولو كان واحدًا فقط، فكم من واحدٍ يغني عن الجميع، لأول مرةٍ تسرح حدباء بخيالها لِمكان جميل بعيدٍ كل البعد عن تساؤلاتها والظلام المحيط بها، لأول مرةٍ تتعرفُ معنى أن تبتسم من الأعماق.
-جميلةٌ أنتِ حينما تبتسمين!
قالت لها زهراء فاحمرَّت وجنتاها خجلًا إذ أنها المرة الأولى التي تسمع فيها كلمة جميلة من أحد، فأجابت بارتباك: هل حقا أنا كذلك؟
-ألم تري ابتسامتكِ يومًا في المرآة؟
-وهل تري أي مرآةٍ هنا؟ لا يوجد إلا سرسري الذي تجلسين عليه وهذه الخزانة الصغيرة التي بالكاد تتسع لثوبين وبعض الأشياء المعدودة، رغم فقر الغرفة من كل شيءٍ وضيقِها إلا أني اعتدتُ العيشَ فيها.
وعندما يُسمح لي الذهاب للحمام لا أحظى بالوقت الكافي حتى أنظر لِنفسي في المرآة، عليَّ إتمام أموري سريعًا وتحت مراقبة أمي.
قالت كلمة "أمي" بصوتٍ منخفض ومُنكسر وبوجه شاحبٍ وحزين.
قاطعت زهراء سرَحان أختها بعد أن لاحظت إحباطها:
-ما الذي تفعلينه طيلة اليوم، أنا لا أستطيع الجلوس وحدي لِعشر دقائق، كيف تستطيعين؟
-قلتُ لكِ اعتدتُ ذلك، التعوُّد شيء عميق ولكن بإمكانك إن أردتِ تدريب نفسكِ عليه.
ثم نظرت للنافذة: أقضي طيلة النهار هناك، أراقب أطفال الحي وهم يلعبون وأستمتع بمراقبتهم، أتمنى لو أنَّ باستطاعتي اللعب معهم لأتلذّذ بشعور الأطفال حينها، فكما تعلمين لم أحظَ حتى بفرصة اللعب في صغري!
وأحيانا أخرى أتمنى لو أن لي طفلٌ صغير أداعبه وأخبره بأنَّ أمه تحبه جدًّا بعكسِ أمي، أخبره بأنَّ أمه فخورةٌ به كيفما كان مُشوَّهًا أو أحدبًا أو أعرجًا أو أعوَرًا، حتى لو كان كومةً لا شكل سويٍّ لها، كنتُ سأحبه وأحتضنه كل ليلة وأخبره ألا يخف لأني معه.
وبدأت تجهشُ بالبكاء محاولةً أن تكتم صوتها كي لا يستيقظ أحد والديها فتُعاقب وتُضرَبُ على ذلك، لطالما مارسَت البكاء المكتوم بل إنه كان "عادة" تنضم لمجموعةِ العاداتِ التي سبق واعتادت عليها.
اقتربت زهراء منها ببطءٍ واحتضنتها برفقٍ هامسةً: لا تخافي أنا أحبكِ وفخورةٌ جدًّا لأنَّ لي أختًا جميلة وقوية مثلك
تساءلت حدباء: أنا لستُ قويةً أبدًا فمن ذاك الذي يرضى بحياةٍ كحياتي ويصمت دومًا دون مقاومة، ولكن لم يكن يومًا بيدي حيلة لِلخلاص، لا أستطيع معارضة أمرٍ من أوامر والدَيكِ بالنهاية هما والِدَين وقد أوصى الله بهما وبعدم معصِيتهما.
-ولكنهما يظلمانكِ ويقسوانِ عليكِِ!
-لأجلكِ أنتِ وأخواتِك، أظن إلى أن يتم نقلكنَّ إلى بيوتكنَّ الزوجية بأمان، عليَّ أن أضحي بحياتي لأجلكن لأني أستحق!
ولأنهما لا يُطيقانِ رؤيتي حيث أنها ضارَّةٌ ببصرهما، لا أعلم كيف لقلبَيهما احتمالَ معاملة ابنتِهما هكذا معاملة، ولِعقلَيهِما استيعاب أفكارٍ قاسيةٍ كهذه!
-هكذا إذن؟
الزوج الذي لن يتقبل وجودكِ بحياتي لا أريده أبدًا
-لن تتمكني من المعارضة والرفض، تعرفين والدَكِ الغاضب دومًا.
-لكنه لا يغضب مني ولا من أخواتكِ، للأسف كلَّما غضب جاء ونفَّس عن غضبه عليكِ!
قالت جملتها بكثيرٍ من الحزن على حدباء والخجل منها، فقاطعتها حدباء:
أعلم ذلك صغيرتي ولهذا لا أحمل عليكنَّ شيئا من الحقدِ بقلبي لأني أعلم أن لا شأن لكنَّ بكل ما يحدث، وأعلم أيضًا أن أخواتكِ لا يكرهنني أبدًا، رأيتُ لمعةَ الصدق بأعينهنّ لكنهنَّ يخفن الاقتراب مني.
-إنهنَّ ماكِرات كلما علمت إحداهنَّ بأني أودُّ المجيء إليكِ وشت بي لوالدَيكِ فأهَدَّد بأني إن جئت سأعاقَب، لذا قررتُ عدم إخبارهن عن شيءٍ وجئتُ سِرًّا.
ثمَّ تساءلت بسخريةٍ: أيُّ أختٍ تزورُ أختها التي تعيش معها في البيت نفسه سرًّا؟
إنَّ هذه لا تحدث إلا في منزلٍ يحكمه الجهلُ والقسوة.
وقامت تخطو خطواتٍ بطيئةٍ ونظرت لساعتها: أظن أن موعدَ آذانِ الفجر قد اقترب وهو الوقت الذي تسمح لكِ أمي به بالخروج للوضوء حتى تصلي، ربما كانت الحسنة الوحيدة التي قامت بها أمي هي تعليمكِ الصلاة، أهنئها!
ردَّت حدباء: للأسف لم تعلمني إياها لِشيءٍ إلا لأطلب الغفران على أني مسخ!
بابتسامةِ استهزاءٍ أكملت: لا أعلم سببًا لمغفرةِ ذلك إن كان الله نفسه أراد لي ذلك فهو لحكمة منه وأنا أشكره عليها كل ليلة فلو كنتُ غيري لما صبرتُ على شيء وما الصبر إلا نعمة كبرى من الله.
-معكِ حق يا أختي، الحمد لله، لا أريد أن أتأخر حتى لا يُكتشَفَ أمري ولكن أعدكِ بأني سأعود غدًا ومعي مرآةٌ حتى ترَي بنفسِك كم أنتِ جميلة جدًّا ولستِ مسخًا أبدًا، بنظري أنتِ ملاك.
ابتسمت حدباء وهي تقول بنفسِها: يا الله ما أعظم هدِيَّتكَ لي، أهديتني أختًا حنونًا تُخاطرُ لأجل أن تسعدني وتشعرني بأني لستُ وحيدة!
اقتربت زهراء منها واحتضنتها وهي تربت على ظهرها قائلة: لا تقلقي سأعود غدًا وكل يوم، أعدكِ بأني لن أترككِ بعد اليوم وسأسعى جاهدةً لإسعادك وإخراجكِ من وحدتكِ الطويلة، هل تحبين الحكايات؟
-نعم ولكن لم أسمع سوى حكايات الأطفال من النافذة!
-سأجعلكِ تسمعين الكثير من القصص، بل وتعيشينها أيضًا ولكن ليكُن الأمرُ سِرًّا بيننا، اتفقنا؟
-اتفقنا.
خرجت زهراء من الغرفة وأقفلت الباب تاركةً خلفها الكثير من البهجة والحب، الكثير من الآمال والأحلام، وابتسامةٌ رائعة زادت من جمال حدباء التي ما طالت بهجتها طويلًا.
عندما فُتح الباب هذه المرة كانت أمها بوجهها العابس كما العادة قائلة: أرى أنَّ شعركِ طال كثيرًا هذه المرة، قومي سأقصه لكِ لتستحمي قبل أن تصلي، هيا بسرعة!
لم ترغب حدباء يومًا أن يتم قصُّ شعرها ولم تعرف حتى ما السبب الذي يجعلُ أمها تفعل ذلك، أحيانًا كانت تشعر وكأنها تنتقم منها بهذا الفعل، ولكن من ماذا تنتقم يا ترى؟
استجمعَت قوتها هذه المرة وسألت: هل لي أن أعرف سبب قصكِ لشعري وأنا لا أرغب بذلك؟
ردَّت الأم بصوتٍ أجشٍّ: وما شأنكِ أنتِ، هذا لا يعنيكِ أبدا!
-كيف لا يعنيني وهذا شعري أنا، فلتتركي لي حرية اختيار كيف أريد أن يكون شعري!
-لا حرية لِمسخٍ بشيء، عليكِ أن تطلبي من الله فقط أن يعجِّل بخلاصك من هذه الحياة!
-لماذا كل هذه القسوة؟ ماذا فعلتُ لكم أنا؟
كانت الدموع تنسابُ من عينيها وهي تكمل أسئلتها: إن كانت إرادة الله أن أُخلَقَ بهذا الشكل ما شأني، وهل أعترض على إرادةِ الله حتى ترضوا؟
-أنتِ الشؤم والفألُ السيء لعائلتنا، ألا يكفي هذا؟
اصمتي قبل أن أضربكِ وامشِ أمامي، لا أطيقُ رؤية شعركِ هكذا!
امتثلت للأمرِ بانكِسارٍ!
لطالما تمنَّت أن تلمح نظرةَ دفءٍ من عينَي أمها التي تشبهها كثيرًا، فقد كان لها ذات العينين وذات الملامح الناعمة وذات الشعرِ أيضًا، وهل تعتبر الأم نفسها بشعةً؟
الجميع كان يتحدثُ عن جمالها الأخاذ قديما، بل وحتى عن الخاطبين الكثُر الذين كانوا يتهافتون لخطبتها إلى أن وقع النصيب على زوجها والد بناتها.
يُقال أنَّ لِلجمالِ ضريبةٌ تقع على صاحبها، ربما كانت ضريبة أمها أن تنجب شبيهةً لها على هيئةِ مسخٍ كما تقول!
أو ربما كانت ضريبة الغرور والتكبر؟
لم يكن أحدٌ قد استيقظ بعد عندما غادرت غرفتها صباحا مع أمها لِإتمامِ قصِّ شعرها واستحمامها، لم تكن الأم تجمع حدباء بأخواتها أبدًا ولا تحبُّ ذلك، لا أحد يعلم السبب ولكن الفتيات كثيرًا ما أشفقنَ على أختهنَّ وأحيانا رغبنَ بمساعدتها.
ذات مرةٍ كانت حدباء متعبة جدًّا تكاد لا تستطيع الوقوف على قدمَيها وكان عليها الذهاب للحمام والوضوء صباحا وصادف ذلك وجود أختها التي تصغرها بعامٍ مُستيقظةً، وأثناء مشيها تعثرت ووقعت أرضا فما كان من الأخت إلا أن قامت مُسرعةً لِمساعدتها على الوقوف، وما إن أمسكت يدها حتى سمعت صوت صراخ أمها غاضبة:
- ماذا تفعلين؟ اتركيها تقوم بنفسها ولا تقتربي منها هل تفهمين!
تتركها وتذهب إلى غرفتها مغلقةً الباب خلفها، حينها نظرت حدباء لأمها نظرة مليئة بالعتبِ وقالت: لا تقلقي أمي، الحدبة لا تنتقل بالعدوى لأنها تلتصق بي جيدًا ولن تتركني كما فعلتِ أنتِ، إنها وفيةٌ لي لِلحدِّ الذي يجعلها تبقى برفقتي رغم ابتعاد الجميع بإرادتهم أو مُجبَرين.
انقضى ذاك النهار الطويل وهي غارقةٌ بين تساؤلاتها وأفكارها التي كانت كدوامة قوية الدوران، لا تستطيع استيعاب تصرفات والِديها اللذان يُفترَض أن يكونا الداعمان الرئيسيان لها والأحضان الدافئة التي تحتويها، لا تستطيع تصديق أن في العالم أجمع هناك أم وأب يحبون أولادهم المشوهين كحالِها، كانت تلك الصورة صعبة التخيل بالنسبة لها لأنها وببساطة لم تكن قد رأت أما وأبًا سوى خاصتها، استطاعا تمكين فكرة عدم وجودها لدى أقاربهما وجعلهم ينسونها حتى لم يعد أحدٌ يسأل عن حالها، عندما يأتيهم أحد من الأقارب تسمع حدباء فقط ضجيج حضورهم، أصواتهم المُتداخِلة بعضها ببعض بأحاديث ممزوجة بالضحكات وأصوات فرقعة الصحون والكؤوس التي يستخدمونها في أكلهم وشربهم، وإن صدف وأن سألت إحدى عماتها أو خالاتها عنها كانت الإجابة الجاهزة والوافية: هي بخير ولكنها نائمة الآن ولن تستيقظ وإن استيقظت هي لا تسمح لأحدٍ أن يراها!
كثيرًا ما تمنت حدباء التعرف على عماتها وخالاتها، فقد كانت تشعر أنهنَّ طيبات وخصوصا اللاتي يسألن عنها، ولطالما تألمت وشعرت بالغضب كلما سمعت ذاك الرد من والديها لأن رغباتها تُعاكِس تمامًا أقوالهما.
عندما تضطر العائلة لِزيارة أحد من الأقارب كان ذاك الوقت الوحيد الذي يبقى باب غرفة حدباء مفتوحًا بدون قفل من أجل الذهاب إلى الحمام، ولكن حدباء لم تكن تخرج كثيرًا، كلُّ ذلك الظلمِ الواقعِ عليها قتل داخلها الفضول لِمعرفة منزلها بتفاصيله، وإن خرجت مرَّةً فكانت تخرج وكأنما هي مراقبة من قِبَلِ أمها الغاضبة، فتنتهي سريعا من عملها وتعود لِقوقعَتها المغلقة من جديد.
لم تشعر إلا والباب يُفتحُ برفقٍ على غير العادة، فتذكرت موعدها مع زهراء، اللقاء الليلي الميمون.
ابتهجت لدى رؤيةِ أختها التي كانت تحمل معها هذه المرة مرآةً وكتاب!
-أين شعرُكِ يا حدباء؟
-قصته أمي اليوم وليتني أعلم سبب إصرارها على قصه، لطالما تمنيته طويلا، حتى شعري لا شأن لي به!
-مع أنكِ كنتِ أجملُ بشعرك الأطول قليلًا بالأمس ولكنكِ لا زلتِ جميلة جدا، انظري!
ومدَّت إليها المرآة حتى ترى بنفسِها.
نظرت حدباء إلى المرآة وهي تشعر بارتباكٍ شديد، هذه أول مرةٍ تنظرُ فيها لِمرآةٍ بِتمعُّنٍ إلى نفسها، فقد كانت تعتقد أنها حقا بشعة مع أن شعورها كان دائما يعاكس اعتقادها ولكنها قررت هذه المرة بأن تترك الاعتقادات جانبا وتلحق قلبها واحساسها، همست باندهاش: حقا أنا جميلة وأشبه أمي كثيرًا، لطالما كنتُ أُعجب بجمالها.
ردت زهراء: نعم، أنتِ الوحيدة التي تشبهينها بيننا ولهذا أنتِ أجملُنا، ربما كانت أمي غاضبة لشدة الشبه بينكما ولا تحب أن ترى نفسها فيكِ لأنها وللأسف لم تتخلَّ بعد عن صفة الغرور وعدم قبول أي شيء لا يليقُ بجمالها، وشبهكِ الكبير بها يجعلها تشعر بالإهانة، لهذا تحبسكِ وتقصُّ شعرك، كم هي قاسية وليست عادلة.
ولكن لا تقلقي أختي، سيأتي يومٌ تعترف فيه بخطئها وتأتي لتعتذر منكِ وتُخرجكِ من حبسِك هذا، فلا شيء يدوم والله قادرٌ على تغيير أفكارها ومشاعرها هي ووالدك.
-"والنعم بالله" قالتها حدباء بصوتٍ هادئ يملأه الرجاء ثم وقعت عينها على الكتاب بيد زهراء وسألت باهتمام: لمَ أحضرته؟
-لِنقرأه سويًّا
-ولكني لا أعرف القراءة، ليتني أستطيع ذلك لكانت حياتي حينها مليئةً بالأحداث والتغيرات، لكانت حياتي أجمل بكثير مما هي عليه الآن، لكان هناك شيءٌ أفعله يقتل الوحدة والوقت الطويل.
قاطعتها زهراء: هل تودين أن تتعلمي القراءة؟
-وهل أستطيع؟ لطالما حلمت بذلك
-طبعا تستطيعين، وأنا سأعلمكِ وأحضر لكِ الكثير من الكتب والقصص الرائعة.
اليوم سأقرأ عليكِ قصةً ومن الغد سنبدأ بالتعلم، ما رأيك؟
-موافقة بالتأكيد، ثم احتضنتها بقوةٍ هامسةً "أنتِ جبرٌ من الله لقلبي".
منذ اليوم التالي بدأت زهراء بتعليم أختها الحروف الهجائية ومن ثم انتقلتا إلى التهجئة فالكتابة الصحيحة ولم تمضِ ستة أشهرٍ إلى وحدباء صار بإمكانها قراءة كتابٍ كاملٍ وكتابة بعض الرسائل القصيرة لأختها.
وجدت حدباء أن بين الكتب والقصص ثمة حياة أخرى بعيدةٌ كل البعد عن واقعها، حياة مليئة بالمفاجآت والمشاعر المختلفة والمغامرات والمعارف الغنية والأفكار المتنوعة، وجدت الحياة التي لطالما تمنتها في وحدتها، والصحبة التي حُرِمت منها طيلة حياتها، وجدت الأمل وأشعلت به طريقها الذي لطالما كان مظلما.
كتبت لزهراء بعد أن أنهت كتاب "البؤساء" الذي أحضرته لها منذ شهر تقريبا تقول:
"ملاكي الحارس واسمحي لي بأن أناديكِ بهذا الاسم منذ اليوم، على الرغم من أن مدة قراءتي لهذا الكتاب كانت طويلة جدا بسبب بطئي في التهجئة حتى الآن، إلا أنه كان رائعًا جدًّا، لم أكن أتخيل قسوةً أشدُّ من قسوةِ والدّيكِ عليّ ولكن كوزيت المسكينة والرجل "جان فالجان" الطيب لا يستحقان كل ذلك، أتعلمين هذه المرة الأولى التي أبكي فيها لسببٍ مختلف تمامًا عن أسباب بكائي دائما؟
عرفتُ أنَّ خارج غرفتي ثمة أشخاصٌ كُثُر يُعذَّبون ويُظلمون ويُعانون أقسى الظروف والآلام، علمتُ أنَّ هناك الكثيرين ممن يأملون أن يُشفقَ على معاناتهم أحدٌ فيحنو عليهم ويجبر كسرهم ولو بكلمةٍ واحدة، أيقنتُ بأني لستُ وحدي من أعاني وهذا الشعور طمأنني وجعل قلبي المتوتر دوما يشعر ببعض الراحة.
شكرا لوجودكِ بحياتي أختي، شكرا لأنكِ علَّمتني كيف أصنع من الجمود والبؤس حياةً جديدة يملأها الأمل والفرح.
بالمناسبة: أمكِ تشعر بأنَّ هناكَ تغيراتٍ حدثت عندي وتحاول البحث واستجوابي، ظنَّت بأني أتحدث مع أحدهم من النافذة فأقفلتها اليوم، بصراحة ضحكتُ بيني وبين نفسي لأني لو فرضنا كنتُ أكلِّم أحدهم كيف سيسمع همسي من الطابق الخامس؟
الحمد لله أنها لم تنظر تحت سريري لكانت وجدت ما يجعلني سعيدةً ومطمئنة.
ملاحظة، بتعليمكِ إياي الكتابة صنعتِ لي عالمًا كاملًا أعيشه بحريةٍ تامةٍ لا يأخذها مني أحد، وبحرًا واسعًا من خيالٍ أغوصُ فيه كيفما شئت، شكرا لأنكِ عالمي الجميل"
كانت حدباء تنتظر الليل بفارِغِ الصبر حتى تقرأ زهراء رسالتها وترى ملامحها أثناء ذلك لأنها المرة الأولى التي تكتب فيها رسالة جميلة غير طفولية في حياتها، فكرت ربما تفتح تلك الرسالة بابًا آخر خلفه حياةً أغنى وأعذب، من خلالها تستطيع التعبير عما تفكر به وما تشعر به.
شعرت أن كتابة مشاعرها وهمومها قد لا تجعلها وحيدة لِتشارك أحدهم أفكارها فتبدو وكأنها تقهر الوحدة التي لطالما سخرت منها وأغرقتها في ظلماتٍ ما بعدها ظلمات.
قررت أن يكون ذاك الشخص الوحيد هو ذاته الذي شعر بها وكان بمثابة "جبرٍ من الله لقلبها"
آمنَت بأنَّ شخصًا واحدًا يساوي الكثير بإيمانه بما نملك من مميزات ولو كانت بسيطة، وبصدقه وإخلاصه لنا.
أصبح لدى حدباء عالم كامل مكوَّنٌ من زهراء والكتب وقلم مع بضعة أوراقٍ يتمُّ تهريبهم لِداخل الغرفة وكأنهم أدوات جريمةٍ ما، ولم تعد وحيدةً بائسة بعد اليوم.
وأخيرا أتت زهراء فقابلتها بابتسامةٍ عريضةٍ نادِرًا ما كانت تظهر على وجهها، وبحماسٍ كبير لم يكن يومًا قائلة:
كنتُ أنتظركِ بفارغ الصبر، انظري ماذا كتبتُ من أجلك!
ومدَّت إليها الورقة الصغيرة المطويةَ بعنايةٍ تامة وكأنها كنزٌ غالي الثمن ويجب الحفاظ عليه، أخذتها زهراء وعيناها تلمع بالفخر والسعادة، هذه المرة الأولى التي تشهد الفرح يتطاير من وجه أختها التي ما فرحت يوما واحدًا من قبل، وبدأت القراءة وعلامات الفرح والدهشة تتبدلان على ملامحها بين سطرٍ وآخر، وما إن أنهتها حتى احتضنت حدباء بقوة قائلة:
أنتِ مبدِعة ورائعة يا أختي، يبدو أنَّ هناك مواهِب كانت مدفونة وبدأت تظهر من جديد.
ردَّت حدباء: يبدو كذلك، شعرتُ أن الكتابة جعلتني أعرف عن نفسي جانبًا لم أكن أتخيله يومًا، لذلك قررتُ أن أكتب دومًا وستقرئين لي أليس كذلك؟
-طبعًا سأقرأ لكِ دومًا، إنه من دواعي سروري أن أكون الشاهد الأول على إبداعك، ولكن هل تسمحين لي بأن أجعل أحدهم يقرأ هذه الرسالة؟
-من تقصدين؟ أرجوكِ لا تقولي أمك لأني أخاف أن تعلم بالأمر فتحرمني هذه الحرية التي جعلتني أتعلم كيف أحلم!
-لا، بالطبع ليست أمي، لا تقلقي!
بالمناسبة، ما هي أحلامك؟
ابتسمت حدباء بجاذبية وبدأت تقول: أحلم أن أكمل تعليمي مثلكِ يا زهراء وقررت أن أتعلم كتابة القصص مثل تلك التي تحضرينها إليَّ لأقرأها
-إذن تريدين أن تصبحي كاتبة قصص!
صمتت دقيقة وهي تفكر بشيءٍ ما ثم قالت: أعرف من يستطيع مساعدتك.
قاطعتها حدباء: كيف سيساعدني وأنا مسجونة هنا لا أعرف أحدًا؟
-لا تقلقي، ولكن عليَّ أن أسألكِ أولًا: هل أنتِ حقًّا ترفضين مقابلة أحد؟
تنهدت حدباء وأجابت: وهل أجرؤ على غير ذلك، أتمنى أن أرى أحدًا من الناس وأتحدث معهم، ولكني أخاف أن تكون أفكارهم كأفكار والِدَيكِ، أخاف أن يتم رفضي وإذلالي.
أمسكت زهراء يد أختها ونظرت بعينَيها وهمست: لا تخافي أرجوكِ، لو أنَّ جميع الناس يفكرون مثلهم هل كنتُ لِأكون أنا؟
هزت حدباء برأسها نافية.
أكملت: عليكِ أن تعلمي أنَّ الناس كما يختلِفون بالأشكالِ والمظاهر يختلفون أيضا بالأفكار والمشاعر، كما أحببتُكِ أنا ولم أراكِ كما يراكِ الآخرون سيُحبكِ غيري ويراكِ كما أراكِ وربما بشكلٍ أفضل، ولِهذا سآخذ رسالتكِ هذه لِتقرأها إحدى معلماتي، هي معلمة طيبة جدًّا تسكنُ بقصرٍ كبيرٍ ذات مالٍ وجمال ولكنها حُرِمت من أن تكون أمًّا لذلك قررت أن تعمل في المدرسة رغم عدم حاجتها للعمل حتى تشعر بأنَّها أمٌّ مسؤولة عن أبناء.
-يبدو أنَّ قصتها مثيرةٌ للاهتمام
-نعم، إنها حنونة جدًّا، سأذهب الآن قبل أن تستيقظ أمك، انتظري الأخبار مني في الغد.
في اليوم التالي عندما عادت زهراء ليلًا كانت سعيدة جدا حدَّ عدم قدرتها على تمالُكِ نفسِها، قالت بعد أن جلست وهدَّأت من تنفسها: رسالتكِ أثارت إعجاب معلمتي بشكلٍ كبير وقالت بأنكِ تمتلكين موهبة رائعة وكبيرة إن تمَّ استغلالها والعمل على تنميتها، سألتني عنكِ واضطررتُ لأن أحكي لها قصتكِ كاملة فغضبت جدًّا وقررت أن تزورنا بنفسها لتراكِ.
قاطعتها حدباء: ولكن والدَيكِ سيغضبان!
-لا تفكري دومًا بغضب والِدَيكِ، هل فكر أحدهما بألمك؟
أخفضت حدباء رأسها بانكسار غارقةً في الحزن.
-حدباء، أرجوكِ كوني قوية ودافعي عن حقوقكِ ولا تفكري أبدًا بغضبهما، عليكِ أن تعيشي حياتكِ الطبيعية وأن تحظي بالحب والرعاية والأحلام لأنكِ تستحقين ذلك.
-معكِ حق، أنا أريد ذلك بشدة، ولكن ما الذي يجب عليَّ فعله؟
-سأخبركِ!
عندما تزورنا اليوم المعلمة، حينها اطرقي الباب بقوةٍ بحيث يُسمَع صوت الطرقِ في البيتِ كله وحين تأتي والدتكِ تحججي بأنكِ تودين الدخول للحمام، عندما تسمع المعلمة صوت الطرق ستسأل عن الصوت وسيُفتَح الحديث عنكِ.
برأيي عندما تفتح أمي لكِ الباب تعالي وقفي أمامها وقولي كل شيء، هي تعرفُ بالقوانين والأحكام وربما كانت هناك عقوبة ما لأفعالِ والدَيكِ بك، أنا واثقة بأن هناك طريقةٌ لإخراجكِ من هذا الجحيم، وبأنَّها ستساعدكِ.
كوني قوية ولو لمرةٍ واحدة لِأجلكِ أرجوكِ
-حسنًا، سأحاول
-عليكِ أن تنجحي.
صوتُ طرقاتٍ قويةٍ تصدر من بابِ غرفةِ حدباء على غير العادة أثناء وجودِ ضيوف!
هذا ما أزعج العائلة وأثار في نفسها القلق والغضب، قامت الأم من مكانها معتذِرة عن الضجيجِ متوعِّدةً بأنها ستُنهيه على الفور بمعاقبةِ الفاعل الذي تعرفُ المعلمة من هو مُسبقًا، فقد كانت زهراء قد أخبرتها عن الخطة كاملة بعد إصرارها على مقابلةِ حدباء بأي شكلٍ كان.
كانت المعلمة قد أخذت قرارها بشكلٍ نهائي، ستأخذ حدباء معها لِتخرجها سجنها، كلتاهما كانت قصتها تكمِل قصة الأخرى، وكلتاهما تحتاج ما تفقده الأخرى، وكلتاهما تُعدُّ حياةً للأخرى.
كانت تنتظرُ بفارغ الصبر وقوف حدباء أمامها، تُفكِر فيما سيحدث بعد قليل، قاطع شرودها صوتُ صُراخ الأم الغاضبة: ستعاقبين أيتها الحدباء المسخ إن أكملتِ طريقكِ إلى غرفة الجلوس حيث الضيوف!
ما إن انتهت من جملتها في اللحظة التي رفعت المعلمة رأسها حتى وجدت حدباء أمامها بملابسَ واسعةٍ جدًّا ورثَّة وشعرٍ أسود مقصوصٍ بعدم انتظام وبملامحَ خائفة.
وقفت المعلمة تنظر لِحدباء وهي تشعر بالأسى والحزن عليها
حاولت الأم سحب حدباء من أمام المعلمة وهي تعتذر منها ولكن حدباء أفلتت يد أمها لأول المرة وقالت: لن أدخل ذاك السجن بعد اليوم، لن أُعاقَبَ على شيء لا ذنب لي به فلستُ أنا من طلب أن يُخلقَ بحدبةٍ في ظهره، ولستُ فألًا سيئًا كما تقولون ولستُ مسخًا أيضًا!
ثم التفتت إلى الضيفة قائلة ودموعها بعينَيها: هل أنا مسخ؟ هل خفتِ مني؟ أرجوكِ أخبريني
ردت بصوتٍ يشوبه الحزن: لا يا طفلتي لستِ كذلك أبدًا
نظرت حدباء إلى أمها وقالت: هل سمعتِ؟ قالت لستِ كذلك
وبدأت تبكي بحرقة وتردد: لستُ كذلك .. لستُ كذلك وهي تنظر بوجوه أخواتها جميعا واحدة تلو الأخرى
وعندما وصلت إلى زهراء احتضنتها بقوةٍ وهي تقول: كنتِ محقة
لم يكن الوالد في المنزل وكانت الأم في حالةٍ من الغضب العارِم، هذه المرة الأولى التي تُعصى فيها أوامرها وتُكسر قوانينها فما كان منها إلا أن انقضَّت على الفتاتَين المُتعانِقتين تفكهما فتضرِب حدباء وتشدها إلى حبسِها وتتوعَّدُ الأخرى بالعقوبة.
قالت المعلمة: انتظري لو سمحتِ يا سيدة، إن ما تفعلينه يُعدُّ جريمةً بحقِّ ابنتكِ التي لم تُذنب بشيء سوى أنَّ لها أبوَينِ يحملان عقولًا جاهلةً وأفكارًا لا تمُتُّ للمنطقِ بصِلة، لقد أنعم الله عليكم بنعمةٍ لم تعرِفوا قدرها أبدًا بل عاقبتموها وحرمتموها حتى من أبسط حقوقها.
لو أن الله رزقني بابنةٍ حدباء لكانت اليوم في المكان الذي تستحقه في مجتمعها محققة طموحها وأحلامها، واثقةً بنفسها بل وحتى مُتباهيةً باختلافها وتميزها، لكنه لم يرزقني ولا اعتراض على حكمه أبدًا.
قالت الأم بدون تفكير: إذن خذي، هذه المسخ من بيتي وافعلي بها ما تشائين!
لم تُصدِّق حدباء ما سمعته وتساءلت: ألهذه الدرجة تكرهينني وأنتِ أمي؟ لو كنتِ غيركِ لكان الأمر أسهل، كانت تبكي بحرقةٍ غير مصدِّقةٍ ما حدث، كانت الصدمة قد غطت كل شيء، اجتاح السكون المكان وعمَّ الصمت وبقيت تتردد العبارة التي قالتها الأم للمعلمة.
وأخيرًا كسرت المعلمة موجة الصمت الثقيلة وقالت: مسخ!
أعدكِ أن تندمي على هذه الكلمة يومًا وتتمني لحظةً واحدة معرفةِ أي شيءٍ عنها.
ثم التفت إلى حدباء واقتربت منها لِتحتضنها: لا تحزني يا حبيبتي، افرحي فقد تحرَّرتِ أخيرًا، السجن والذل والألم والخوف
كل ذلك أصبح ماضٍ، لا تخافي لن أترككِ أبدًا وستصبح حياتكِ وأحلامكِ شغلي الشاغل، هل ستأتين معي؟
نظرت حدباء لِأختها زهراء مُتسائلةً فهزَّت الأخرى برأسها موافقةً لأنها لا تريد لأختها إلا ما تستحق.
كان هذا آخر يومٍ لحدباء بذلك المنزل، حدباء الذي تغير اسمها أخيرًا ليُصبح "نعمة"، فقد كانت النعمة التي أنعم الله بها على تلك المعلمة حيث صار لحياتها معنى وسبب وهدف، كيف لها وقد أصبحت أمًّا!
مرَّت عشر سنوات على ذلك اليوم و"نعمة" تعيش في كنفِ عائلتها الجديدة وسط المجتمع الذي وجدت في بعضه الرفض وفي بعضه الآخر القبول والترحاب والحب، ولكنها قررت أن تخوض جميع التجارب، وتواجه كل التحديات في سبيل تحقيق أحلامها وإثبات أن التشوهات الخلقية لن تُغني عن الحياة أو تنفي معنى الوجود أو تسلب حق صاحب التشوه بها، وأن المظاهر لا تحدِّد وحدها ماهِيَّة الشخص والسبب الحقيقي لِوجوده إنما الإرادة والإبداع والتفكير والسعي خلف تحقيق الذات هو ما يجب الاهتمام به، أخذت شهادة التعليم الإعدادي والثانوي وأنهت دراستها الجامعية بكلية الآداب قسم اللغة العربية، واليوم تُحاول إنهاء كتابة روايتها الأولى "حدباء المسخ لم تكن إلا نعمة" التي شجعتها دوما المعلمة "الأم التي لم تلدها" ولمست منذ اللحظة الأولى مدى إبداعها وإصرارها على تحويل أحلامها لِواقعٍ مليءٍ بالأمل والسعادة.
وبالطبع لم تنسَ أختها زهراء يوما فقد كانتا تتقابلان كل يومٍ تقريبا فتتبادلان الأخبار والأحاديث والأحلام، تزوجت أختاهما وبقيت زهراء في المنزل ترفض الزواج لأنها تأمل أن تصبح بروفيسورةً في الجامعة بكلية الصيدلة حيثُ درست، وتعملُ في صيدلية قريبةٍ من المنزل لِتبقى قريبة من أجل أمها المريضة طريحة الفراشِ بعد صدمةِ وفاة والدها منذ سنتين.
النهاية.
للكاتبة: مياس وليد عرفه

لا اعلم ماذا سأكتب لكِ اختي مياس(نعمة) اسئل الله ان يرزقني رؤيتك في اعلا المراتب وانتِ تحققينَ طموحكِ متفائلة ومتيقنة بنصر الله عز وجلّ لعبادة لوالديكِ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ)(٢٣)
ردحذفاسئل الله ان يوفقكِ وينصرك ويجعلكِ حُلُماً لمن تجرأ عليكِ بكلمة او بتفكيرٍ او بنظرة
رائعة جداً بالتوفيق الدائم إن شاء الله
ردحذف