القائمة الرئيسية

الصفحات

"تحررت البلاد" من سلسلة رسائلي للقمر

التنقل السريع

    عزيزي القمر،

    يبدو أني سأعود للكتابة إليك، على الرغم من أنه لا وجود لك في واقعي. لستَ سوى خيالٍ أُشكِّله كيفما أشاء، وأجعلك في المرتبة التي أشاء. ليس مهمًّا أبدًا من تكون، وكيف تكون، بقدرِ ما يهمّني أن أشعر أن ثمة شيئًا ما يستحق الكتابة إليه، وأن شيئًا ما سينتظر رسائلي بشغف، ولو كنتُ أتخيّل ذلك فقط... فبعض الخيال حياة!

    غِبتُ طويلًا عنك، أو دعني أقول إنني تخلَّيتُ عن خيالي من أجل وهمٍ متنكّر بالحقيقة، من أجل زوبعةٍ غيَّرت مجرى مشاعري، ثم هربت. أو لعلها لم تهرُب، بل كُشِفَت على حقيقتها: أنها لم تكن شيئًا يُذكَر!

    أتت لتقلب الحياة الهادئة التي كنتُ أنعمُ بها معك، ثم انتهت!

    كنتُ دائمًا أخبرك عن وحدتي، وعن حجم الفراغ الذي يبتلعني. لكني الآن، أعترف لك بأني صرتُ أتعرَّف إلى الوحدة على حقيقتها. صرتُ داخلها، وهي داخلي. لا مهرب الآن أبدًا!

    لا أريد أن أُدخِل السَّأم إلى قلبك الجميل، لكني أيقنتُ أن ليس لي سواك صديقًا. أعتذر عن البُعد الذي أحدثته بيننا بعدم الكتابة إليك، ولكني أعدك بأني لن أملَّ الكتابة بعد الآن، لك ولأجلك.

    عزيزي القمر،

    تحقَّق الحلم المستحيل، وتحرَّرت البلاد أخيرًا من أيدي الظَّلمةِ المجرمين الذين عاثوا في أرضها فسادًا، أولئك الذين قتلوا ما قتلوا من بشرٍ وشجرٍ وحجر! أولئك الذين سمحوا للغربة بابتلاعي وابتلاع الآلاف مثلي، والذين تسببوا في أن يعيش الكثير في خيامٍ لا تقي من بردٍ ولا حرٍّ ولا جوع، خيامٍ لا تقي حتى من الموت!

    تحرَّرت البلاد ممن هدم وكسر ونفى واستكبر، وظنَّ أنه سيُخلَّد بطغيانه، ممن قتل الحياة في قلوب أبناء الشعب كله. تحرَّرت، وكُشِفَ أمام الملأ غِطاء الإجرام والفساد، وتجرَّد الساقط من كلِّ ما كان يُخيف به الشعب المسكين. تجرَّد من طغيانه وظلمه، وظهر لنا على حقيقته: جبانٌ هاربٌ من موته الأكيد، الذي نشره على أرض البلاد كلها، لِتدور الدائرة، ويحوم كل ذلك الموت حوله كأصابع اتهام تتجه نحوه من أجل القصاص المحتوم!

    تحرَّرت البلاد، وغنَّينا جميعًا أغاني الانتصار. بكينا دموعَ الفرح الغزيرة، بعد أعوامٍ طويلة من القهر والظلم والانكسار، والتأرجُحِ المستمر بين الأمل والخيبة من أن يستمر ذلك الصعلوك الهارب في إجرامه!

    أخيرًا، فُتحت أبواب السجون التي ظنّ الجميع أن لا مفاتيح لها، وأن الداخل إليها مفقودٌ كمن يبتلعه قبرٌ من تراب. وبالفعل، ابتلع الكثير، ولكن ظلَّت أجسادهم دون قبور!

    خرجت منها الكثير من الأجساد الهزيلة والضعيفة. خرجت منها نظراتٌ منكسرة، مذهولة، مصدومة، غير مصدِّقة! خرجت منها حكايات كثيرة من الذل والظلم والقهر، حكايات تُصدَّق، وأخرى يصعب تصديقها من هولها! وخرجت كذلك آمالٌ وأحلامٌ ورغباتٌ كثيرة، أولها: العدالة، ومحاسبة ذلك المجرم وأعوانه.

    هي حقٌّ على كلِّ سوريٍّ ذاق الويلات، وعاش الظلم والموت والفقر والتهجير والاعتقال والإخفاء القسري والجوع والبرد والتنكيل والتعذيب والحرمان واغتصاب الحياة والأمان والراحة والاستقرار. هي حقّنا ومطلبنا جميعًا.

    تحرَّرت البلاد، وعاد اللاجئون. ولم نعد لاجئين مكسورين في بلدان اغترابنا، بل صرنا مواطنين أحرارًا. تحررت البلاد، وصار الطاغية هو اللاجئ الوحيد!

    عزيزي القمر،

    أتدري ما معنى أن تكون سوريًّا حُرًّا؟

    يعني أنَّ لك وطنًا تحبه، ويحبك، ويحترمك، ويفتخر بكونك منه. يعني أن الوطن كله لك: بمدنه وتاريخه وعراقته، بحجارته وياسمينه، بطرقاته وأبنيته، بضحكات الصغار الذين تضرب أرجلهم الصغيرة أرضه وهم يتراكضون فرحًا، بحكايات رجاله ونسائه، بخجل صباياه وقوة شبابه، بلمعة الأمل في أعين سكانه بعد التحرير، بالراحة والطمأنينة على تلك الوجوه التي كان الشحوب يغطي ملامحها كلها.

    يعني أنَّ لك منبتًا وجذورًا تنتمي إليها، وحلمًا جديدًا تسعى إليه من أجل أن يبقى البلد، ويتطور، ويكبر.

    عزيزي القمر،

    تحررت البلاد، وسأتحرر أخيرًا من غربتي.

    سيعود الشتاء إلى الوطن، حامِلًا معه الكثير من الحكايات والأحلام والخطط.

    سأعود، وستبقى صديقي الوحيد إلى الأبد.

    ملاحظة صغيرة:

    اكتشفتُ أنه من الممكن العودة إلى مكانٍ كان دافئًا، ولو رحل سكانه، وبقيتُ فيه وحدي... تمامًا كما عُدتُ لكتابة رسائل يستحيل الردّ عليها!

    – ميّاس وليد

    اقرا ايضاكلمة "عميق"
    اقرا ايضاصديقان


    أنت الان في اول موضوع

    تعليقات