القائمة الرئيسية

الصفحات

"كالغريبة بِلا مكان" من سلسلة رسائلي للقمر

 

عزيزي القمر...

الحياة هنا ليست بذلك السوء الذي تخيلته قبل العودة، فقد بدأتُ أعتاد الكثير من الأشياء التي كنتُ أستصعِبها.

حتى أنني بدأتُ أتأقلم بوجودي في هذا البيت الكبير والقديم رغم أني لم أكن أرغب أبدا العيش فيه. 

كنتُ أتوق للعودة إلى ذلك البيت الصغير الذي قضيت فيه أجمل سنين عمري بحلوها ومرها، البيت الذي يمكنني القول عنه بأنه الوطن الصغير الذي حُرِمتُ منه، ذلك البيت الذي شعرت وأنا أفارقه بأن روحي نُزِعَت مني، وحين رجعت لم أرجع إليه، بقيتُ كالغريبة بلا مكان.

من الصعب يا قمري أن يلاحقك الشعور بأن لا مكان يخصك ويحتضنك، وبأن المكان الذي غادرته ليس لك الحق في العودة إليه.

عُدتُ مجدَّدًا إلى الوطن هذا صحيح، لكني لم أعد للمكان الذي يخصني، للبيت الذي خبَّأتُ على شرفته أسراري وحكاياتي، للبيت الذي بمجرد أن دخلتُ حارته انتابني الشعور بأمان العائد إلى بيته!

 منذ الشهر الأول الذي أمضيته هنا على أرض الوطن لم أتحمل الشوق بداخلي لذلك البيت، فسمحتُ لقلبي أن يقودني حيث يريد، في اللحظة الأولى التي حطَّت بها قدماي على بداية الحارة التي تودي إلى ذلك البيت شعرتُ بنفس الشعور الذي انتابني يوم الرحيل، كنتُ أختنق قهرًا وحسرةً وبكيت كما بكيت بذلك اليوم شوقًا وحنينًا.

ماذا لو كان بإمكاننا اختيار الأماكن التي نودُّ العيش فيها؟ ماذا لو كان بإمكاننا العودة بالزمن إلى الوراء جدًّا حيث بإمكاننا الشعور بذاتِ المشاعر حينها؟

حلمٌ واحدٌ راودني بإلحاحٍ في غربتي وكأنه الشيء الوحيد الذي أحتاجه في هذه الحياة لأشعر بالطمأنينة والأمان، أن أعود ولو لدقائق إلى ذلك البيت، وأجلس على تلك النافذة أتأمل شجرة الزيتون في الحديقة الصغيرة المقابلة، والسماء الزرقاء التي يتخللها بضع غيماتٍ بيضاء صافية، والنوافذ المغلقة للمنازل المقابلة التي ألَّفت لأصحابها الكثير من الحكايات ولم أُفصح عنها لأحد.

تنتابني رغبةٌ مُلِحةٌ لعيشِ شعور العودة لذاك المنزل والشعور بدفئه ولو لمرةٍ واحدة، ولكن ماذا لو فقد دفئه المنشود بوجود ساكِنيه الجدد؟

للبيوت روابط قوية بساكنيها، هناك من ينشر الدفء والحب داخلها وفي زواياها، وهناك من يُبقها باردةً يملأها الخواء.

عزيزي القمر..

للأماكن حِصةٌ من شوقنا، كالأوطان والبيوت، وطرُقٍ تحمل من الذكرياتِ لنا ولِأحبابنا الكثير.

مع أنه لم تجمعني بك ذكرى واحدة على أرض هذا الوطن المبارك، إلا أنني أرغب بزيارة كل مكانٍ أحبه برفقتك، فأحكي لك بصوت الفرح والحب حكاية كلِ مكانٍ يشهدُ وجودنا معًا فيه.

- مياس وليد



تعليقات

التنقل السريع